10، 9، 8، 7، 6، 5، 4، 3، 2، 1...
لبست الكلسون الطويل، وفوقه بنطلون الجينز الطويل، وشددت نفسًا أطول وخضت، أنا وشريكتي في السفر الطويل، هذه الليلة التي سأرشّحها في صبيحة السنة القادمة للمنافسة على لقب "أطول ليلة في حياتي". باريس، هذا السحر المدعو مدينة، وعدتني بنبيذ وبأنخاب جديدة وبأقواس قزح. البرد اللئيم تحطّم عند لباسي الطويل الذي سرق منه بعض درجاته، مشكورًا، ليمنحني، أنا اللا-أوروبيّ، القدرة على مغادرة الغرفة المغلقة الدافئة إلى الخارج، إلى العيد.
بعد أن غادرتني طفولتي التي أنعمت عليّ بليالي رأس سنة بطعم الكستناء المشوي، وبعد أن غادرتني سذاجة المراهقة وأصبح رأس السنة عادة سنوية فيها الكثير من التكرار الممل الذي ينتهي بك مشاهدًا تلفزيونيا متحسرًا حاسدًا مدن العالم على استقبال العام بهذا الشكل الخاص، ها أنا الليلة جزء من نشرة أخبار الساعة 1:00 في تلفزيونكم، قلت لنفسي، وانطلقت نحو البرج الذي ينتظرني منذ سنوات.
وصلنا إلى ساحة البرج الغاصة بالناس نصف ساعة قبل الحدث الجلل، وفي يدي قنينة من النبيذ المثير للفرح. كنا في حضرة عشرات الآلاف من الناس الوافدين من كل جهات الأرض للغرض ذاته – قضاء ليلة من العمر. جميعهم، كما رأيت وسمعت وشممت، كانوا سعداء مسرورين؛ النبيذ كان عند وعده، كيف لا ونحن في بلد النبيذ. رن الهاتف النقال جالبًا التهاني والمعايدات من البيت، هناك حيث يجلس المحرومون من هذا البهاء، أمام سفافيد اللحوم التي بردت كما برد الاحتفال قبل ثلاثة أرباع الساعة. "يا ليتنا معكم" كان ملخّص الحديث الآتي من الشرق، و"إلاّ إلاّ، إحنا هون وإنتو لأّ" كان ملخص الردّ الصادر عنا مغلفا بمعسول الكلام. كنا في قمة السعادة، مجازيا وجغرافيًا، ولم نبلغ بعد الذروة الآتية بعد دقائق.. ميرسي لألله بوكو بوكو.
هي خمس دقائق، قنينة النبيذ نزفت قطراتها الأخيرة للتو، ولا نبيذ أحمر فرنسي يرافقنا عند نقطة الصفر. غفلة تكتيكية شنيعة نشلتنا منها صبيتّان يوغسلافيتان وقفتا على مقربة منا ولاحظتا ضائقتنا فقدمتا لنا نخب صداقة ستعيش لعشرة دقائق عند مفترق عامين. كان نبيذ وكانت أنخاب جديدة، وسيكون قوس القزح!
بدأ العد التنازلي. 60 ثانية؛ نحن هنا ومعنوايتنا أعلى من برج إيفل. 50 ثانية؛ صوت طوشة فرنسية مفعمة بالكحول الفرنسي والسباب الفرنسي تسمع من بعيد، وسرعان ما تذوب هامدة في الجلبة. 40 ثانية؛ العيون شاخصة بزاوية 45 باتجاه البرج. 20 ثانية؛ أشعل سيجارة احتفالية مهيئًا نفسي لأعظم عرض مفرقعات نارية شهده التاريخ، يا لتعاسة باقي سكان الكرة الأرضية الذين لا يعيشون ليلتي الاستثنائية في مدينة الأنوار. 10، 9، 8، 7، 6، سانك (فتنا في الجو)، كواتغ، توا، تو، آن، زيغو، و... عيّدنا.
منذ ذلك الحين، وأنا أقول لكل من قابلني، أن من لم "يعيِّد" ليلة رأس السنة في باريس، لم يعيّد في حياته. لم أخبر أحد بأن الحدث الكبير لم يكن إلا إضاءة البرج لدقيقة أو أكثر، لم أخبر أحد عن نظرة "هدا هو" التي تبادلناها أنا وشريكتي في السفر والخيبة، لم أخبر أحد أن بلدية باريس قررت في تلك السنة أن ترأف بالبيئة ومنعت الألعاب النارية، لم أقل لأحد إن "الميترو" تعطل في تلك الليلة، وأين تاكسيات باريس؟! باختصار، لم أقل شيئًا عندما سألوني عن باريس في الليلة الكبيرة، فكنت أكتفي بتسليم كلمة "باريس" لخيالهم الواسع.
ليلة رأس السنة التالية قضيته في حيفا. في الساعة 12:00 قُطع التيار الكهربائي عن حي عباس. ساق الله أيام باريس!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق