الثلاثاء، ١ تشرين الثاني ٢٠١١

تاكسي الحنان!

تاكسي الحنان!
رازي نجار

إليكم تشبيه آت من عالم الأبوة: السفر في تاكسي "سبِشل" يشبه أحيانًا بيضة كيندر؛ فهو حلو أحيانًا – لمن يستحلي صيد القصص مثلي -، ودبق أحيانًا بفعل الخوشبوشية المفرطة التي تميز غالبية سائقي التاكسي الذين يشاطرونك بطولاتهم الحميمية بعد المتر العاشر من مشواركما من النقطة "أ" (نسبة إلى "أخيرًا مرقت تاكسي") إلى النقطة "ب" (نسبة إلى "بس، نزلني عندك") التي تبعد عنها نحو 25 شيكلاً. والأهم هو أن التاكسي، مثل الكيندر، دائمًا يخبئ لك مفاجأة.. وأية مفاجأة كانت في انتظاري في تلك الليلة التل أفيفية البعيدة.



كانت جميع الساعات الموجودة في مجالي البصري، ساعة التليفون وساعة الحاسوب وساعة الحائط، متّفقة على أن عشرين دقيقة لا غير تفصلني عن آخر قطار ينطلق من المدينة الهائجة إلى غرفة النوم الكبيرة المدعوة حيفا، فحملت متاعي وحزمة من الأمل والتفاؤل وهرعت إلى الشارع الرئيس لأستنجد بأول تاكسي يصادفني. لم يخيبني الأمل، بل وأنعم عليّ بتاكسي نظيف معطر مرسيدسيّ الهيئة (وإن كان سكودا)، فارتكبت، ولم تمر دقائق حتى ارتبكت!

وقبل – كنت على عادتي في مثل هذه الأسفار، التي تسابق عقارب الساعة وتراكم الشيكلات في العدّاد، محدقًا كالصنم في الشارع، دغري لا ألتفت لا يمنى ولا يسرى، في محاولة للاطمئنان على سير السيارة من أي ازدحام مروري طارئ يجعل مني هوملِسًا تل أفيفيا لليلة واحدة.

فجأة، لفتت أذني موسيقى كلاسيكية خافتة منبعثة بخجل من جهاز الراديو، فقلت لنفسي "كلاسيكية؟ تاكسي؟ مش طبيعي!". أدرت وجهي لأرى من يكون هذا السائق العجيب الذي يسمع موسيقى كلاسيكية، وأنا المتوقّع، بفعل المنطق والخبرة، سريت حداد تلعلع في فضاء تاكسي الغرائب هذا، وإذ!..
-      عفوًا، أنتَ.. أنت؟
-      أنا.. لا أعرف، ماذا تقصد؟
-      أقصد، أنت.. نعم هذا أنت. (ثم بحثت عن اللوحة الصغيرة المعلقة عادة على يسار السائق وتدل على اسمه ورقمه، فلم أجد حل اللغز)
-      أنا عارف؟
-      نعم هذا أنت. لكنك كنت أسمن بكثير (أكل لبناني؟). بالأمس فقط رأيتك على شاشة المنار.
-      المنار؟ لماذا تشاهد المنار؟ (في هذه المرحلة فهم أخونا، من المعلومة ومن لكنتي المتعثّرة عبريًا، أنني عربي "ملوخلاخ" – هكذا قرأت ما يجول بخاطره)
-      أنت نجم دائم هناك. لم ينسوك..
-      غريب.

قالها بمرارة ومد يده إلى زر الفوليوم في جهاز الراديو ورفع الصوت قليلا في إشارة إلى أن المحادثة انتهت من ناحيته، فاحترمت مراده وصمتت. وهناك، بين الشيكل الثامن عشر والشيكل الخمس وعشرين وبعض الأغورات، جلست في التاكسي إلى جانب السائق الأسير السابق لدى حزب الله اللبناني، المأسوف على شيبته ورتبته العسكرية والاجتماعية، إلحنان تننباوم بشحمه ولحمه – أو ما تبقى منها. لم يكن معي في ذلك الوقت سمارتفون أسرّب منه ستاتوسًا يقول "في التاكسي مع الأسير السابق إلحنان تننباوم" أحصد من خلاله دونمات من الأباهيم المنتصبة إعجابًا، حتى أن الفيسبوك لم يكن قد تغلغل بعد في تفاصيل حيواتنا كما هو اليوم، فكبتت المفارقة في خاطري وتصارعت مع الأسئلة التي لم أسأله إياها معزيا الصحفي النائم فيّ بأنه "سيب الزلمة بحاله، فاللي فيه مكفّيه".  

كان هذا قبل ثلاث سنوات تقريبًا، ومنذها أنا على ثقة بأن آلهة الصدفة خصتني بمثل هذه اللقاءات العجيبة. من يعرف، قد أدخل يومًا ما، بعد خمس سنوات ربما، إلى غرفة رقم 453 في مكاتب ضريبة الدخل في صفد مثلا، لأجد أن الموظف الجالس خلف الطاولة هو قلعاط الذي قلعطونا فيه لمدة 1941 يوما.. ويومين. هذه المرة، بفضل خبرتي في هذه المواقف، سأكون بحبوحا معه؛ "شليط"، سأقول له، "نصحان. شنيتسل التيتا أطيب من طبيخ أهل غزة، ها؟".