الخميس، ٢٤ تشرين الثاني ٢٠١١


18.1.1991




عُلِّق أنتوني كوين على حبل، على خشبة. قتله المستعمر الإيطالي، فعلقت دمعة في عيني، وانتهى الفيلم ليس قبل أن يعيد إليّ حفنة نزيرة من الأمل الثوري – طفل يلتقط نظارتي عمر المختار ويمضي بها مع الجموع الخارجة في موكب جنائزي صحراوي مهيب ضد الاستعمار. بعد دقائق سينتهي البث، وسيبقى جهاز تلفزيوننا الياباني الذي خرج بنا من عهد الأسود والأبيض إلى عهد ملوّن يكبر فيه الأولاد مع نيدو، مجرد صندوق فارغ مصمود في صدر البيت. أبي أنهى للتو عملية عزل البيت عن العالم الخارجي المليئ بالبيوت المعزولة مثله، سادًا منافذ البيت، على مختلف أحجامها، بواسطة شريط لاصق من النوع الذي سيعرف فيما بعد بـ"لصيق صدّام". الكيماوي الموعود لن يدخل بيتنا هذه الليلة.

"الليلة بدُّه يضرب" كانت العبارة السائدة في الأيام الأخيرة، ولم يضرب بعد. لكن هذه الليلة الحبلى بالمفاجآت كانت واعدة أكثر من سابقاتها، شيء ما في الجو كان ينذر بذلك، ربما هو قرار التلفزيون الأردني بث فيلم "عمر المختار" لمصطفى العقاد، هذا الفيلم الذي أتخيل أنه محفوظ في جارور عليه ملصق "يعرض عندما تكون الدنيا مـﭽـلوبة" – وهذا استنتاج استنتجته لاحقا عندما عرض أيام عملية "عناقيد الغضب" وبداية الانتفاضة الثانية والعدوان على العراق وعشية مصائب إقليمية غابرة أخرى.


الكل نيام، ووحدي أنا أطارد النوم وهو متملّص، أُنقّل نظري بين عقارب الساعة والشباك المطل على تلة تحجب نصف حيفا النائمة في انتظار السكاد. الثانية وخمس دقائق. ضوء أحمر صغير يطير في السماء بسرعة يشدني بسرعة صاروخية إلى الشباك، يغيب الضوء خلف التلة التي تحجب نصف حيفا ثم أرى وميضًا يشبه وميض الكاميرا يتبعه صوت انفجار أو أكثر. أسرع باتجاه غرفة والداي، أفتح الراديو فيستيقظا ليسمعا معي تلك الجملة المبهمة التي ستصبح فيما بعد لسان حال الأسابيع التالية – "نحاش تسيفع"؛ بعد دقائق كنا أنا وعائلتي الملتزمة بتعليمات "نحمان شاي" جالسين في غرفتي الآمنة ننتظر أمرًا من الراديو يريحنا من الكمامات الخانقة. الكيماوي لم يأتِ في تلك الليلة، ولا الغاز ولا الخردل ولا أي سلاح بعثي شامل التدمير، لقد كانت الصواريخ القادمة من بلاد ما بين النهرين كونفِنسيوناليةً حد الملل، فلم يكن أمامنا أنا إخوتي إلا إعلان انطلاق مراثون القضاء على أكياس المسليات والمحليات على أنواعها. إنها شهية الحرب الكاسرة للروتين الغذائي ولأوامر والدتي التي حاولت عبثًا أن تؤجِّل فتكنا بالبمبا والبيسلي وشوكولاطة البقرة، إلى ما بعد تناول وجبة "مفيدة" من الأكل المعلّب الذي استحوذ على مساحة لا بأس بها من الغرفة، لكن لحسن حظنا اكتشفنا أن قيادة جبهتنا الداخلية – والداي إن شئتم – نسيت أن تضمن وجود فتاحة علب في غرفتنا المعزولة.

 الكيماوي لم يسقط في تلك الليلة؛ مواء القطط الشبقة الباحثة عن علاقة جنسية عابرة كان عاليًا مستنفرًا لكلاب الحارة. الاستنتاج واضح: الحيوانات لم تمت، بل هي حية وتعمل على أن تُرزق. لكن الراديو المتلعثم الناقل لارتباك الجيش كان جازمًا "لا تخرجوا من الغرف الآمنة، فالكيماوي غدار مكار متربص"، فلم نخرج – لن نستشهد في سبيل فتاحة علب.
-       يمّا، كمان كيس بمبا؟!

                                                                 * * * * * * * *  

اليوم، في حيفا خلف التلة اياها، على بعد أكثر من عشرين عامًا، يتصدّر قائمة الـ"تو دو ليست" التي وضعتها زوجتي لزوجها الفوضوّي اللا مبالي بند "لازم نجيب الكمامات"، ذلك أن منسوب قلقها الأمومي المزمن مرتبط بعلاقة طردية مع القلق المزمن المتزايد الوافد من نشرات الأخبار. اليوم سأذهب لجلب الكمامات، ليس قبل أن أعرج على دكان الأدوات المنزلية وأشتري دزينة من فتاحات العلب التي سأوزعها في أرجاء البيت؛ فتاحتان لكل غرفة - فاحتمالات الحرب م ف ت و ح ة.      



هناك تعليق واحد:

sami يقول...

جبت الكمامات ولا بعدك المره فش مزح