السبت، ٣١ كانون الأول ٢٠١١




10، 9، 8، 7، 6، 5، 4، 3، 2، 1...


لبست الكلسون الطويل، وفوقه بنطلون الجينز الطويل، وشددت نفسًا أطول وخضت، أنا وشريكتي في السفر الطويل،  هذه الليلة التي سأرشّحها في صبيحة السنة القادمة للمنافسة على لقب "أطول ليلة في حياتي". باريس، هذا السحر المدعو مدينة، وعدتني بنبيذ وبأنخاب جديدة وبأقواس قزح. البرد اللئيم تحطّم عند لباسي الطويل الذي سرق منه بعض درجاته، مشكورًا، ليمنحني، أنا اللا-أوروبيّ، القدرة على مغادرة الغرفة المغلقة الدافئة إلى الخارج، إلى العيد.

بعد أن غادرتني طفولتي التي أنعمت عليّ بليالي رأس سنة بطعم الكستناء المشوي، وبعد أن غادرتني سذاجة المراهقة وأصبح رأس السنة عادة سنوية فيها الكثير من التكرار الممل الذي ينتهي بك مشاهدًا تلفزيونيا متحسرًا حاسدًا مدن العالم على استقبال العام بهذا الشكل الخاص، ها أنا الليلة جزء من نشرة أخبار الساعة 1:00 في تلفزيونكم، قلت لنفسي، وانطلقت نحو البرج الذي ينتظرني منذ سنوات.

وصلنا إلى ساحة البرج الغاصة بالناس نصف ساعة قبل الحدث الجلل، وفي يدي قنينة من النبيذ المثير للفرح. كنا في حضرة عشرات الآلاف من الناس الوافدين من كل جهات الأرض للغرض ذاته – قضاء ليلة من العمر. جميعهم، كما رأيت وسمعت وشممت، كانوا سعداء مسرورين؛ النبيذ كان عند وعده، كيف لا ونحن في بلد النبيذ. رن الهاتف النقال جالبًا التهاني والمعايدات من البيت، هناك حيث يجلس المحرومون من هذا البهاء، أمام سفافيد اللحوم التي بردت كما برد الاحتفال قبل ثلاثة أرباع الساعة. "يا ليتنا معكم" كان ملخّص الحديث الآتي من الشرق، و"إلاّ إلاّ، إحنا هون وإنتو لأّ" كان ملخص الردّ الصادر عنا مغلفا بمعسول الكلام. كنا في قمة السعادة، مجازيا وجغرافيًا، ولم نبلغ بعد الذروة الآتية بعد دقائق.. ميرسي لألله بوكو بوكو.

هي خمس دقائق، قنينة النبيذ نزفت قطراتها الأخيرة للتو، ولا نبيذ أحمر فرنسي يرافقنا عند نقطة الصفر. غفلة تكتيكية شنيعة نشلتنا منها صبيتّان يوغسلافيتان وقفتا على مقربة منا ولاحظتا ضائقتنا فقدمتا لنا نخب صداقة ستعيش لعشرة دقائق عند مفترق عامين. كان نبيذ وكانت أنخاب جديدة، وسيكون قوس القزح!

بدأ العد التنازلي. 60 ثانية؛ نحن هنا ومعنوايتنا أعلى من برج إيفل. 50 ثانية؛ صوت طوشة فرنسية مفعمة بالكحول الفرنسي والسباب الفرنسي تسمع من بعيد، وسرعان ما تذوب هامدة في الجلبة. 40 ثانية؛ العيون شاخصة بزاوية 45 باتجاه البرج. 20 ثانية؛ أشعل سيجارة احتفالية مهيئًا نفسي لأعظم عرض مفرقعات نارية شهده التاريخ، يا لتعاسة باقي سكان الكرة الأرضية الذين لا يعيشون ليلتي الاستثنائية في مدينة الأنوار. 10، 9، 8، 7، 6، سانك (فتنا في الجو)، كواتغ، توا، تو، آن، زيغو، و... عيّدنا.

منذ ذلك الحين، وأنا أقول لكل من قابلني، أن من لم "يعيِّد" ليلة رأس السنة في باريس، لم يعيّد في حياته. لم أخبر أحد بأن الحدث الكبير لم يكن إلا إضاءة البرج لدقيقة أو أكثر، لم أخبر أحد عن نظرة "هدا هو" التي تبادلناها أنا وشريكتي في السفر والخيبة، لم أخبر أحد أن بلدية باريس قررت في تلك السنة أن ترأف بالبيئة ومنعت الألعاب النارية، لم أقل لأحد إن "الميترو" تعطل في تلك الليلة، وأين تاكسيات باريس؟! باختصار، لم أقل شيئًا عندما سألوني عن باريس في الليلة الكبيرة، فكنت أكتفي بتسليم كلمة "باريس" لخيالهم الواسع.

ليلة رأس السنة التالية قضيته في حيفا. في الساعة 12:00 قُطع التيار الكهربائي عن حي عباس. ساق الله أيام باريس!


الأربعاء، ٢١ كانون الأول ٢٠١١

اضغط على الصورة للتكبير والقراءة - إذا نظرك ليس 6/6


الخميس، ٢٤ تشرين الثاني ٢٠١١


18.1.1991




عُلِّق أنتوني كوين على حبل، على خشبة. قتله المستعمر الإيطالي، فعلقت دمعة في عيني، وانتهى الفيلم ليس قبل أن يعيد إليّ حفنة نزيرة من الأمل الثوري – طفل يلتقط نظارتي عمر المختار ويمضي بها مع الجموع الخارجة في موكب جنائزي صحراوي مهيب ضد الاستعمار. بعد دقائق سينتهي البث، وسيبقى جهاز تلفزيوننا الياباني الذي خرج بنا من عهد الأسود والأبيض إلى عهد ملوّن يكبر فيه الأولاد مع نيدو، مجرد صندوق فارغ مصمود في صدر البيت. أبي أنهى للتو عملية عزل البيت عن العالم الخارجي المليئ بالبيوت المعزولة مثله، سادًا منافذ البيت، على مختلف أحجامها، بواسطة شريط لاصق من النوع الذي سيعرف فيما بعد بـ"لصيق صدّام". الكيماوي الموعود لن يدخل بيتنا هذه الليلة.

"الليلة بدُّه يضرب" كانت العبارة السائدة في الأيام الأخيرة، ولم يضرب بعد. لكن هذه الليلة الحبلى بالمفاجآت كانت واعدة أكثر من سابقاتها، شيء ما في الجو كان ينذر بذلك، ربما هو قرار التلفزيون الأردني بث فيلم "عمر المختار" لمصطفى العقاد، هذا الفيلم الذي أتخيل أنه محفوظ في جارور عليه ملصق "يعرض عندما تكون الدنيا مـﭽـلوبة" – وهذا استنتاج استنتجته لاحقا عندما عرض أيام عملية "عناقيد الغضب" وبداية الانتفاضة الثانية والعدوان على العراق وعشية مصائب إقليمية غابرة أخرى.


الكل نيام، ووحدي أنا أطارد النوم وهو متملّص، أُنقّل نظري بين عقارب الساعة والشباك المطل على تلة تحجب نصف حيفا النائمة في انتظار السكاد. الثانية وخمس دقائق. ضوء أحمر صغير يطير في السماء بسرعة يشدني بسرعة صاروخية إلى الشباك، يغيب الضوء خلف التلة التي تحجب نصف حيفا ثم أرى وميضًا يشبه وميض الكاميرا يتبعه صوت انفجار أو أكثر. أسرع باتجاه غرفة والداي، أفتح الراديو فيستيقظا ليسمعا معي تلك الجملة المبهمة التي ستصبح فيما بعد لسان حال الأسابيع التالية – "نحاش تسيفع"؛ بعد دقائق كنا أنا وعائلتي الملتزمة بتعليمات "نحمان شاي" جالسين في غرفتي الآمنة ننتظر أمرًا من الراديو يريحنا من الكمامات الخانقة. الكيماوي لم يأتِ في تلك الليلة، ولا الغاز ولا الخردل ولا أي سلاح بعثي شامل التدمير، لقد كانت الصواريخ القادمة من بلاد ما بين النهرين كونفِنسيوناليةً حد الملل، فلم يكن أمامنا أنا إخوتي إلا إعلان انطلاق مراثون القضاء على أكياس المسليات والمحليات على أنواعها. إنها شهية الحرب الكاسرة للروتين الغذائي ولأوامر والدتي التي حاولت عبثًا أن تؤجِّل فتكنا بالبمبا والبيسلي وشوكولاطة البقرة، إلى ما بعد تناول وجبة "مفيدة" من الأكل المعلّب الذي استحوذ على مساحة لا بأس بها من الغرفة، لكن لحسن حظنا اكتشفنا أن قيادة جبهتنا الداخلية – والداي إن شئتم – نسيت أن تضمن وجود فتاحة علب في غرفتنا المعزولة.

 الكيماوي لم يسقط في تلك الليلة؛ مواء القطط الشبقة الباحثة عن علاقة جنسية عابرة كان عاليًا مستنفرًا لكلاب الحارة. الاستنتاج واضح: الحيوانات لم تمت، بل هي حية وتعمل على أن تُرزق. لكن الراديو المتلعثم الناقل لارتباك الجيش كان جازمًا "لا تخرجوا من الغرف الآمنة، فالكيماوي غدار مكار متربص"، فلم نخرج – لن نستشهد في سبيل فتاحة علب.
-       يمّا، كمان كيس بمبا؟!

                                                                 * * * * * * * *  

اليوم، في حيفا خلف التلة اياها، على بعد أكثر من عشرين عامًا، يتصدّر قائمة الـ"تو دو ليست" التي وضعتها زوجتي لزوجها الفوضوّي اللا مبالي بند "لازم نجيب الكمامات"، ذلك أن منسوب قلقها الأمومي المزمن مرتبط بعلاقة طردية مع القلق المزمن المتزايد الوافد من نشرات الأخبار. اليوم سأذهب لجلب الكمامات، ليس قبل أن أعرج على دكان الأدوات المنزلية وأشتري دزينة من فتاحات العلب التي سأوزعها في أرجاء البيت؛ فتاحتان لكل غرفة - فاحتمالات الحرب م ف ت و ح ة.      



الثلاثاء، ١ تشرين الثاني ٢٠١١

تاكسي الحنان!

تاكسي الحنان!
رازي نجار

إليكم تشبيه آت من عالم الأبوة: السفر في تاكسي "سبِشل" يشبه أحيانًا بيضة كيندر؛ فهو حلو أحيانًا – لمن يستحلي صيد القصص مثلي -، ودبق أحيانًا بفعل الخوشبوشية المفرطة التي تميز غالبية سائقي التاكسي الذين يشاطرونك بطولاتهم الحميمية بعد المتر العاشر من مشواركما من النقطة "أ" (نسبة إلى "أخيرًا مرقت تاكسي") إلى النقطة "ب" (نسبة إلى "بس، نزلني عندك") التي تبعد عنها نحو 25 شيكلاً. والأهم هو أن التاكسي، مثل الكيندر، دائمًا يخبئ لك مفاجأة.. وأية مفاجأة كانت في انتظاري في تلك الليلة التل أفيفية البعيدة.



كانت جميع الساعات الموجودة في مجالي البصري، ساعة التليفون وساعة الحاسوب وساعة الحائط، متّفقة على أن عشرين دقيقة لا غير تفصلني عن آخر قطار ينطلق من المدينة الهائجة إلى غرفة النوم الكبيرة المدعوة حيفا، فحملت متاعي وحزمة من الأمل والتفاؤل وهرعت إلى الشارع الرئيس لأستنجد بأول تاكسي يصادفني. لم يخيبني الأمل، بل وأنعم عليّ بتاكسي نظيف معطر مرسيدسيّ الهيئة (وإن كان سكودا)، فارتكبت، ولم تمر دقائق حتى ارتبكت!

وقبل – كنت على عادتي في مثل هذه الأسفار، التي تسابق عقارب الساعة وتراكم الشيكلات في العدّاد، محدقًا كالصنم في الشارع، دغري لا ألتفت لا يمنى ولا يسرى، في محاولة للاطمئنان على سير السيارة من أي ازدحام مروري طارئ يجعل مني هوملِسًا تل أفيفيا لليلة واحدة.

فجأة، لفتت أذني موسيقى كلاسيكية خافتة منبعثة بخجل من جهاز الراديو، فقلت لنفسي "كلاسيكية؟ تاكسي؟ مش طبيعي!". أدرت وجهي لأرى من يكون هذا السائق العجيب الذي يسمع موسيقى كلاسيكية، وأنا المتوقّع، بفعل المنطق والخبرة، سريت حداد تلعلع في فضاء تاكسي الغرائب هذا، وإذ!..
-      عفوًا، أنتَ.. أنت؟
-      أنا.. لا أعرف، ماذا تقصد؟
-      أقصد، أنت.. نعم هذا أنت. (ثم بحثت عن اللوحة الصغيرة المعلقة عادة على يسار السائق وتدل على اسمه ورقمه، فلم أجد حل اللغز)
-      أنا عارف؟
-      نعم هذا أنت. لكنك كنت أسمن بكثير (أكل لبناني؟). بالأمس فقط رأيتك على شاشة المنار.
-      المنار؟ لماذا تشاهد المنار؟ (في هذه المرحلة فهم أخونا، من المعلومة ومن لكنتي المتعثّرة عبريًا، أنني عربي "ملوخلاخ" – هكذا قرأت ما يجول بخاطره)
-      أنت نجم دائم هناك. لم ينسوك..
-      غريب.

قالها بمرارة ومد يده إلى زر الفوليوم في جهاز الراديو ورفع الصوت قليلا في إشارة إلى أن المحادثة انتهت من ناحيته، فاحترمت مراده وصمتت. وهناك، بين الشيكل الثامن عشر والشيكل الخمس وعشرين وبعض الأغورات، جلست في التاكسي إلى جانب السائق الأسير السابق لدى حزب الله اللبناني، المأسوف على شيبته ورتبته العسكرية والاجتماعية، إلحنان تننباوم بشحمه ولحمه – أو ما تبقى منها. لم يكن معي في ذلك الوقت سمارتفون أسرّب منه ستاتوسًا يقول "في التاكسي مع الأسير السابق إلحنان تننباوم" أحصد من خلاله دونمات من الأباهيم المنتصبة إعجابًا، حتى أن الفيسبوك لم يكن قد تغلغل بعد في تفاصيل حيواتنا كما هو اليوم، فكبتت المفارقة في خاطري وتصارعت مع الأسئلة التي لم أسأله إياها معزيا الصحفي النائم فيّ بأنه "سيب الزلمة بحاله، فاللي فيه مكفّيه".  

كان هذا قبل ثلاث سنوات تقريبًا، ومنذها أنا على ثقة بأن آلهة الصدفة خصتني بمثل هذه اللقاءات العجيبة. من يعرف، قد أدخل يومًا ما، بعد خمس سنوات ربما، إلى غرفة رقم 453 في مكاتب ضريبة الدخل في صفد مثلا، لأجد أن الموظف الجالس خلف الطاولة هو قلعاط الذي قلعطونا فيه لمدة 1941 يوما.. ويومين. هذه المرة، بفضل خبرتي في هذه المواقف، سأكون بحبوحا معه؛ "شليط"، سأقول له، "نصحان. شنيتسل التيتا أطيب من طبيخ أهل غزة، ها؟".

السبت، ٢٠ آب ٢٠١١

ززززززززززززززززززززززززززز



ززززززززززززززززززززززز!

 (1)
 نظـــرة فـابتسامــة فســلامٌ فـكـلامٌ فمـوعــدٌ فلـقــاءُ فقبلة آسرة وأكثر في الخفاء، فأحلام لا تخلو من مشكنتا، فاتفاق، فأهلها فأهله فخطبة فمطبعة فبطاقة فكبسة على زر جرس الباب، فكبسة ثانية، فثالثة، فاستنتاج بأن الجرس الكهربي معطوب، فدق على الباب، فـ"مين" فسكوت ففتح للباب، فـ"أهلاً" فـ"تفضل" فـ"عقبالك يا أمير" فـ"سلِّم"، فإغلاق للباب فسبُّ الباري عز وجل، ففتح للمكتوب فإمعان في التفاصيل والمواعيد فتوسيع حيّز سب الباري بإلحاق أخت وهمية به، فاستغفار الغفور (عند المؤمنين)، فديار في الأفراح عامرة، فـ"نستقبل سوى العريس والعروس" فالتقاء ناظري ابنة خال العريس وابن عمة ابن أخت العروس، فنظرة فابتسامة فسلام فـ... فدق على الباب فـ"عقبالك يا أمير"... وليتحمّل الباري الرحوم.

(2)
 ليس هذا النص نصًا بكائيا يتناول موضوع النقوط. لا، لم أخن الأمانة ولم أودّع الطبقة الوسطى بعد، وكل ما في الأمر أنني شأني كشأن جميع أبناء جلدتي المشاركين وغير المشاركين في احتجاج الخيم والجيوب؛ تمسحتُ. السؤال الذي يزف نفسه راقصًا هو "متى ستنصب خيم الاحتجاج أمام قاعات الأعراس؟".

 (3)
 للأذُن في المناسبات العائلية حضورا فاعلا - والأصح مفعول بها. وصلت، وأنا وأذناي إلى القرية الشمالية الضائعة عند حدود الأمل (لبنان كما نتخيله متأملين)، مسقط رأس جيناتي أجمعين، بعد غياب عقد من الزمن وانقطاع طويل مشوب بعتاب بعض ذوي القربى. دخلت موقعة الحلاقة الافتراضية على صوت مهاهاة مهاهِية مبتدئة ينتظرها مستقبل باهر، ثم خضت جولة من العبط والتقبيل خرجت منها سالمًا غانمًا بحب مجرّد من أي مصلحة. المشهد لم يكن ورديًا إلى هذا الحد، فبعض رجال العائلة الأشداء، والذين رأوني آخر مرة عام ألف وتسع مائة وشيء ما (يعني زماااان)، لم يلاحظوا أنني كبرت منذ ذلك الحين وأنني رجل إلى جانبه زوجة ستضحك عليه فيما بعد، وسمحوا لأنفسهم بأن "يفركوا أذني" توبيخا وتأنيبا على الغياب الطويل غير المبرر. لا بأس، ذلك أن مشكلتي الأعراسية لا علاقة لها بالأذن الخارجية المشلوعة والمفروكة، بل بأجزاء داخلية من الأذن يعمل على إتلافها المدعو "تكليتان" عرسًا بعد عرس.


 (4)
ينص القانون البيئي على ألا يتجاوز ارتفاع صوت الموسيقى في قاعات الأعراس على 85 ديتسيبل، على أن تلتزم القاعة بالارتباط بجهاز قياس الضجة الذي يقطع الكهرباء عن مصدر الموسيقى في حال تجاوزه الدرجة المسموحة. تطبيق القانون غير حاصل في مجتمعنا العربي، وكم بالحري في أعراسنا الهائجة في الفلا. الأضرار الصحية الناتجة عن التعرض لموسيقى صاخبة (فوق 85 ديتسيبل) هي أضرار ليست مباشرة بل تراكمية تطال الأذن والنفس أيضًا. هذا يعني أننا شعب مريض أعراس!

 (5)
يتميز "التكليتان" العربي، إلى جانب عشقه غير المفهوم للمايكروفون، بفقره المعرفي المدقع بأسس علم هندسة الصوت. من الأعراض المرافقة لحضور التكليتان في أعراسنا؛ حكّة مزعجة في الأذن، ناتجة عن رداءة الأجهزة والتسجيل وجهل التحكم بلوحة هندسة الصوت التي يعتبرها التكليتان من المكملات الجمالية في عدّته. سسسسسسسسوا!

 (6)
عندما تعود من الزفة أطرش، وتضع رأسك على المخدة وتسمع "ززززززززز"، حتما ستصل إلى استنتاج مفاده في أن "التكليتان" مؤامرة من أطباء الآذان.
             

الأحد، ١٤ آب ٢٠١١


لــــيــــش؟!


رازي نجار

على الضفة الثانية من المفاجأة التي تنتظرني في آخر الفقرة الثالثة، وقفت مع ابنتي، التي أربيها وتعيد تربيتي كل يوم، على الرصيف المرقع المحاذي لبيت "تيتا". كانت الخطة أن نقطع الشارع باتجاه حظيرة الحيوانات مساهمة مني في جسر الهوة بينها وبين الطبيعة، والتي فرضتها عليها بعد اتخذت من المدينة بيتا لي ولها – ذلك أن هناك في المدينة، ليس "البقر" سوى فعالية تربوية في الحضانة، أو تعليل يصدر عني كلّما استيقظَت فزعًا على دوي انفجار مفرقعات تعليلية تقلق منام الشق العربي من المدينة الساكنة على البحر؛ "ليش الصاروخ بابا؟" تسألني صاحبة الـ"ليش" اللا نهائي، فأجيبها "بقر بابا"، فتنام.. بعد ساعة!

نعود إلى الرصيف المحفّر، حيث اخترت أن أنتهز الزيارة إلى الجذور وأن أعلمها درسًا في قطع الشارع، في صيغته القروية؛ فإضافة إلى "ننظر إلى اليمين، ثم إلى اليسار" التي تعرفها (لا أعرف من أين!)، هنا "ننظر إلى الأسفل"، ثم استبقتُ الـ"ليش" المتوقع بجواب يشرح لها بلغة مبسطة التراكمات الاجتماعية والنكبوية التي أدت إلى عزوف بعض أصحاب "بيوت الحجر" عن الارتباط بمشروع المجاري البلدي – وليس من منطلقات الحفاظ على جودة مياه البحر المتوسط. "أراااف" قالت ضاحكة، وقطعنا الشارع.

"هذا ديك، وهذه دجاجة (طبعًا، لا أكلمها بالعربي الفصيح)، وهذا خروف، وهذا كلب جعاري، وهذه بقرة، وهذا حصان، وهذا ابن الحصان. كيف صوت الحصان؟.. وهذه شجرة ليمون، وهذه رمانة، وهذه شجرة مريخوانا، وهذه دالية عنب"، مريخوانا؟!!

أخذت نفسًا (هواء، ونتن أيضًا، مما اقتضى التنويه)، ثم بحلقت أشد بحلقة بالنبتة الخضراء اليانعة اليافعة المتمردة الثائرة الخارجة عن القانون الرسمي والأعراف الاجتماعية المعلنة، لأتأكّد من صحة ما أرى وأشم. لم تكن شتلة، كما تُدعى هذه النبتة عادة، بل كانت شجرة تجاوز ارتفاعها طولي الفعلي (1.74 م) وحتى طولي المعنوي (1.91 م)، شجرة بكل ما تحمل كلمة شجرة من براعم. 


ها أنا إذا، واقف مع طفلتي أمام جناية قانونية تزداد العقوبة عليها كلما ازداد حجمها ونموّها. عقلي المهلوس بدأ بكتابة السيناريو المحتمل: صاحب هذه المشروع الزراعي لن يستطيع أن يفلت من مسؤوليته عن ظهور نبتة القنب في أرضه بادعاء أن بذورها موجودة في علف الطيور (حقيقة علمية) وبالتالي هي إرادة الطبيعة – طبعا إذا استطاع أن يثبت للمحقق الأزرق-أبيض أن الطبيعة، جل جلالها، قادرة على بناء سياج معدني دائري الشكل يحيط بالنبتة، وفزاعة من قش تبعد عنها بعض الطيور الكسولة الراغبة في التحليق "بالهاي" مجازًا!


تسألني الصغيرة المتململة بجانبي والتي انتبهت بفطنتها الحادة إلى أن الشجرة اياها سرقتني عنها "إيش هاي بابا؟". أجيب بأنها لعمّو الذي يسكن هناك. "ليش؟" المتوقعة أخرجت مني جوابًا مبهمًا؛ "عشان يتمسك بالسعادة بابا".
-      ليش؟
-      لأنُّه فش عندو ولاد!

هامش ضروري:
أظهر بحث نشر في عدد تموز 2008 من مجلة Pediatrics العلمية، وشارك فيه باحثون من كلية الطب في يوستون وباحثون من جامعة لندن، أن ابتسامة الطفل تحرك في دماغ الوالدين مناطق تنشط أثناء الإدمان على المخدرات، وتمنحهم نفس الإحساس بالنشوة.  



السبت، ٢٩ كانون الثاني ٢٠١١