الثلاثاء، ٢٧ نيسان ٢٠١٠


نصف الكأس الفاضي!



رازي نجار

يرن هاتفي. الشاشة تعلن أن رئيس التحرير يبحث عني. أتمتم وأبرطم قبل أن أضغط زر الاستقبال، ذلك أن "يا ساتر" وقاية خير من "لم أر أنّك اتصلت" علاج.

على الجهة الثانية من الكلام يأمرني الرانن – بصيغة الطلب الملطِّف – أن أكتب نصًا مستعجلاً عن المونديال عجّل الله إقباله، ويعتذر عن ضيق الوقت في الطلب/الأمر. أوافق، متفائلاً أخاكم لا بطل، وأقول له "دعك من ضيق الوقت، جيت بوقتك"، أقول للطالب أبو المجد* مقتبسًا الطارِب الضارِب أبو المجد الآخر، وأقرر أن أزيح عني صفة الكاتب الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، وأن ألبس قبعة الكاتب الذي يعجبه العجب، بغض النظر عن من خسر ومن غلب، وأكتب عن نصف الكأس الملآن.

أفرك رأسي مرة لعلّ عفريت النص يخرج عليّ من مصباحي المنطفئ ويهديني نصًا كله أمل وروح إيجابية، لكن عبثًا أحاول. رغم ذلك أبدأ، فليس أمامي أكثر من 90 دقيقة.

تغريني فكرة كتابة مقدمة كلاسيكية، مفادها في ما يلي: بعد شهر ونصف الشهر، سيضع الناس حيواتهم وهمومهم وأعمالهم وهواياتهم وأعراسهم ونسائهم وأطفالهم جانبًا، ويغوصون في مستنقع، عفوًا، واحة المونديال. إنها فرصة للإنسانية جمعاء للتخلص من غرائزها الهدامة نحو الاجتماع حول هذه الرياضة المحبوبة التي وصفها الشاعر بحرب النبلاء... أتوقف هنا، أنظر خلفي في المرآة الجانبية على ما سقت من الكلام، وأقرر ألا أتابع هذه المحاولة المفرطة في الرومانسية الكاذبة. ثم أعيد المحاولة.

بعد شهر ونصف الشهر سيتحقق حلم الزعيم نلسون مانديلا، ذلك السجين السياسي الذي قضى عقود من حياته وراء قضبان سجون الأبرتهايد بهدف القضاء على النظام العنصري في بلده – جنوب أفريقيا، ونجح. نعم، هذا أول مونديال تستضيفه القارة السوداء - سوداء نسبة للون بشرة سكانها، وربما لحظهم التعيس على مر التاريخ - ما يجعله مونديالاً تاريخيًا مع سبق الإصرار ورصد الأموال. مانديلا، والذي منذ توليه رئاسة جنوب أفريقيا المتجددة في العام 1994، أيقن في الرياضة رافعة تضع أمته (مشروع أمته) في واجهة الشعوب المتقدمة، عمل بكل جهده (مهملاً شؤون السياسة الجارية أحيانًا) لكي يفوز منتخب بلاده بكأس العالم للرغبي (ابنة الخالة الشنعة للعبة كرة القدم الشقفة)، وحقق ذلك في غضون عام واحد. المفارقة في حينه كانت أن مانديلا الذي رأى في الرياضة، أي رياضة، رمزًا يستقطب من حوله السود المظلومين والبيض الظالمين، وفرنًا يصهرهما سويًا ويحرق العنصرية ليكوّنا شعبًا واحدًا جديدًا، لم يفطن لمسألة التذاكر، فحصل أن جميع من حضر مباراة الكأس النهائية كانوا من البيض ميسوري الحال القادرين على دفع ثمن البطاقة، فبقي حلمه غير مكتمل...

واليوم، وبينما يتكرّر الإنجاز التاريخي لجنوب إفريقيا (استضافة أهم حدث رياضي عالمي على الإطلاق) تتكرر المفارقة اياها؛ أهل البلاد الأصليين، الأفارقة الفقراء، عاجزون عن المشاركة في هذه التظاهرة "الإنسانية"، بسبب الثمن الباهظ لتذاكر حضور المباريات. من الجهة الثانية من العالم وكأسه، لا يبدي الأوروبيون الرأسماليون أي تهافت يذكر على شراء التذاكر، الأمر الذي يضع علامة استفهام كبيرة على نجاح المونديال في هذا الجانب. العارف في الأمور سيعزو كسل الأوروبيين هذا إلى النعرة العنصرية المتعالية اياها، والتي قد تأتي على شكل أعذار أقبح من ذنب، مثل البعد الجغرافي، والخطر الأمني والخوف وبركان أيسلاندا.. الخ الخ. يبقى الأمل في أن يستدرك الـ"فيفا" حجم القضية، ويقول للأوروبيين بالناقص، وينقّص من سعر التذاكر معيدًا اللعبة الشعبية إلى الشعوب.

قبل أن أذهب، أعود إلى مونديالي الشخصي جدًا، وأعترف أمامكم حبرًا على ورق جريدة، أنني لا أستطيع أن أختم مقالي إلا بكلمة سحرية، سأقولها لمرة واحدة: ميسي.. وربما لمرة ثانية وثالثة، ميسي ميسي ميسي، وعذرًا للبرازيليين!





ليست هناك تعليقات: