الأربعاء، ٢٨ نيسان ٢٠١٠



خمسة وخـ.. مـيـسي!

رازي نجّار



كان ذلك أسعد يوم في حياتي (هذا إذا تناسيت - خدمة للنص - يوم موت رِكس، كلب جيراننا المتوحش). كنت في السادسة من عمري عندما اكتشفت أنني أسكن على بعد ضربة حرة مباشرة من بطل حقيقي من لحم ودم (على عكس غراندايزر وستيف-أوستين وحميدو أبطال الملاعب). الزمان؛ بدايات صيف يخبِّئ مونديالاً سيربحه الطليان وتتخلله حرب على لبنان. المكان؛ بلدة صغيرة تتنفس كرة القدم. الحدث؛ زاهي ما غيره، ابن جارنا أبو إميل الأرملي، النجم المحلي الصاعد، يقود فريق أبناء شفاعمرو إلى حلم القطرية مسجلاً أربعة أهداف في مباراة واحدة مصيرية. منذ ذلك الحين، ارتبط في ذهني هذا الرقم، أربعة، بالنجومية في عالم الكرة، وأصبح زاهي نجم طفولتي...

منتصف هذا الأسبوع في حيفا، حيث أسكن على بعد ضربة كتيوشا مباشرة من لبنان، أعاد لي ليونيل ميسي تاريخي الشخصي هذا، وذاك الشعور الطفولي باكتشاف نجم من لحم ودم، يسجل أربعة أهداف في مباراة حاسمة ويصبح نجم الطفل الكبير الذي يعيش في داخلي، في داخل كل من يحب كرة القدم...

أكتب هذه السطور مساء يوم أمس السبت*، أي قبل ساعات معدودة من واقعة الكلاسيكو التي سيواجه فيها ميسي وبرشلونة خصمهما اللدود، ريال مدريد (وكرستيانو رونالدو المغرور). ولا أخفي عليكم أنه رغم كفري المطلق بغيبيات الحسد والعين ومشتقاتها، ثمة خشية ما تلجم سريان المديح لميسي، خشية أن تُختتم ليلتي بخيبة غير متوقعة. ثم ماذا يمكن القول في ميسي أكثر مما قيل حتى الآن، وخاصة ما بعد الثلاثاء الفائت؟!

ليس لدي ما أضيفه من حيث الألقاب التي انهالت عليه من كل حدب وصوب، كما أنني أميل إلى الاعتقاد بأن ميسي، بسبب صغر سنه وكبر موهبته، سيضع محرري الصحف وواضعي العناوين في مأزق مستقبلي، فالخير كما بدا ويبدو، لقدام، وخير البرّ عاجله (الليلة إن شاء الله).

لذا، من باب عدم التكرار، وعدم التكرار هذه ميزة من ميزات نجم حديثنا، أودّ التوقف عند نقطة هامة لاحظتها من خلال جولاتي بين البيت والعمل وصولاتي الإنترنتية العديدة، وهي أن ميسي، يوم الأربعاء، كان عنوان يوم من يبعدون عن كرة القدم بعد فلسطين عن الأرجنتين. عبقرية هذا العملاق الصغير، خفّته، سرعته، تواضعه، استطاعت أن تجذب إليه، وبالتالي إلى لعبة الكرة، أشخاص لا يعرفون أن في فريق كرة القدم 11 لاعبًا، وهنا تكمن عظمة أفضل لاعب في التاريخ. أن تشاهد ميسي يعني أن تشاهد فنًا يتكّون أمامك ويرزق حيًا على أرضية خضراء، من دون الحاجة لأن تعرف ما يدور في ظواهر لعبة الكرة وخباياها...

في أيام طفولتي المبكرة والمتأخرة كنت من المولعين (ترجمة مقترحة لـ"سروفيم" العبرية المتداولة) بكرة القدم، ذلك أن محيطي المباشر، بفضل الأرملي، كان كذلك. ولع خمد مع مرور الزمن ولسنين طويلة، ثم تجدد جزئيًا مع تعرفي على إدماني المناوب – لعبة الفيفا في الكمبيوتر، ثم عاد واشتعل مع تعرفي إلى ظاهرة ميسي. هنا، أجد من الضروي أن أعلق على ما قاله مدرب الأرسنال في المؤتمر الصحفي الذي تبع خسارتة فريقه أمام ميسي، عندما قال "ميسي يلعب كالبلي ستيشن"، لكن الحقيقة التي دأب على كشفها محترفي عالم الألعاب المحوسبة والتي أعرفها أنا من تجربتي الشخصية، هي أن ميسي المحوسب لا يرقَ لمستوى ميسي الحقيقي. نعم، ميسي غلب الكمبيوتر أيضًا!

ختامًا، وحفاظًا على تقاليدنا العربية، لا يسعني إلى أن أقطع الطريق على أية وسيلة إعلامية عربية، وأعلن حصريًا، أن ميسي، كغالبية عظماء العالم (شيكسبير هو هو الشيخ زبير مثلاً)، ينحدر من أصول عربية أندلسية، هاجرت الأندلس إلى الأرجنتين في القرن التاسع عشر. والميس، بحسب لسان العرب، التَبَخْتُر، ماسَ يَمِيسُ ميساً ومَيَساناً: تَبَخْتَر واخْتالَ. فهل قلنا اسمًا على مسمى؟!

*(10.4.2010)





الثلاثاء، ٢٧ نيسان ٢٠١٠


نصف الكأس الفاضي!



رازي نجار

يرن هاتفي. الشاشة تعلن أن رئيس التحرير يبحث عني. أتمتم وأبرطم قبل أن أضغط زر الاستقبال، ذلك أن "يا ساتر" وقاية خير من "لم أر أنّك اتصلت" علاج.

على الجهة الثانية من الكلام يأمرني الرانن – بصيغة الطلب الملطِّف – أن أكتب نصًا مستعجلاً عن المونديال عجّل الله إقباله، ويعتذر عن ضيق الوقت في الطلب/الأمر. أوافق، متفائلاً أخاكم لا بطل، وأقول له "دعك من ضيق الوقت، جيت بوقتك"، أقول للطالب أبو المجد* مقتبسًا الطارِب الضارِب أبو المجد الآخر، وأقرر أن أزيح عني صفة الكاتب الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، وأن ألبس قبعة الكاتب الذي يعجبه العجب، بغض النظر عن من خسر ومن غلب، وأكتب عن نصف الكأس الملآن.

أفرك رأسي مرة لعلّ عفريت النص يخرج عليّ من مصباحي المنطفئ ويهديني نصًا كله أمل وروح إيجابية، لكن عبثًا أحاول. رغم ذلك أبدأ، فليس أمامي أكثر من 90 دقيقة.

تغريني فكرة كتابة مقدمة كلاسيكية، مفادها في ما يلي: بعد شهر ونصف الشهر، سيضع الناس حيواتهم وهمومهم وأعمالهم وهواياتهم وأعراسهم ونسائهم وأطفالهم جانبًا، ويغوصون في مستنقع، عفوًا، واحة المونديال. إنها فرصة للإنسانية جمعاء للتخلص من غرائزها الهدامة نحو الاجتماع حول هذه الرياضة المحبوبة التي وصفها الشاعر بحرب النبلاء... أتوقف هنا، أنظر خلفي في المرآة الجانبية على ما سقت من الكلام، وأقرر ألا أتابع هذه المحاولة المفرطة في الرومانسية الكاذبة. ثم أعيد المحاولة.

بعد شهر ونصف الشهر سيتحقق حلم الزعيم نلسون مانديلا، ذلك السجين السياسي الذي قضى عقود من حياته وراء قضبان سجون الأبرتهايد بهدف القضاء على النظام العنصري في بلده – جنوب أفريقيا، ونجح. نعم، هذا أول مونديال تستضيفه القارة السوداء - سوداء نسبة للون بشرة سكانها، وربما لحظهم التعيس على مر التاريخ - ما يجعله مونديالاً تاريخيًا مع سبق الإصرار ورصد الأموال. مانديلا، والذي منذ توليه رئاسة جنوب أفريقيا المتجددة في العام 1994، أيقن في الرياضة رافعة تضع أمته (مشروع أمته) في واجهة الشعوب المتقدمة، عمل بكل جهده (مهملاً شؤون السياسة الجارية أحيانًا) لكي يفوز منتخب بلاده بكأس العالم للرغبي (ابنة الخالة الشنعة للعبة كرة القدم الشقفة)، وحقق ذلك في غضون عام واحد. المفارقة في حينه كانت أن مانديلا الذي رأى في الرياضة، أي رياضة، رمزًا يستقطب من حوله السود المظلومين والبيض الظالمين، وفرنًا يصهرهما سويًا ويحرق العنصرية ليكوّنا شعبًا واحدًا جديدًا، لم يفطن لمسألة التذاكر، فحصل أن جميع من حضر مباراة الكأس النهائية كانوا من البيض ميسوري الحال القادرين على دفع ثمن البطاقة، فبقي حلمه غير مكتمل...

واليوم، وبينما يتكرّر الإنجاز التاريخي لجنوب إفريقيا (استضافة أهم حدث رياضي عالمي على الإطلاق) تتكرر المفارقة اياها؛ أهل البلاد الأصليين، الأفارقة الفقراء، عاجزون عن المشاركة في هذه التظاهرة "الإنسانية"، بسبب الثمن الباهظ لتذاكر حضور المباريات. من الجهة الثانية من العالم وكأسه، لا يبدي الأوروبيون الرأسماليون أي تهافت يذكر على شراء التذاكر، الأمر الذي يضع علامة استفهام كبيرة على نجاح المونديال في هذا الجانب. العارف في الأمور سيعزو كسل الأوروبيين هذا إلى النعرة العنصرية المتعالية اياها، والتي قد تأتي على شكل أعذار أقبح من ذنب، مثل البعد الجغرافي، والخطر الأمني والخوف وبركان أيسلاندا.. الخ الخ. يبقى الأمل في أن يستدرك الـ"فيفا" حجم القضية، ويقول للأوروبيين بالناقص، وينقّص من سعر التذاكر معيدًا اللعبة الشعبية إلى الشعوب.

قبل أن أذهب، أعود إلى مونديالي الشخصي جدًا، وأعترف أمامكم حبرًا على ورق جريدة، أنني لا أستطيع أن أختم مقالي إلا بكلمة سحرية، سأقولها لمرة واحدة: ميسي.. وربما لمرة ثانية وثالثة، ميسي ميسي ميسي، وعذرًا للبرازيليين!