الثلاثاء، ٢ تشرين الأول ٢٠١٢
الثلاثاء، ١٥ أيار ٢٠١٢
الجمعة، ٢٧ كانون الثاني ٢٠١٢
المندوب النادِب!
المندوب النادِب!
بتأنٍّ حذر، عبرت سيارة الشارع الإسفلتي البرمائي المحاذي لبيتنا، تاركة في الفضاء جملتين طربيّتين من موال لصباح فخري، التقطهما عامل شركة البريد للتليفونات الأرضية ليفتتح حديثا مع أهالي الحي مدعيا أنه عرف فخري مذ كان الأخير فتى يبيع الكعك في شوارع حلب ويطرب أهل مدينة القدود بصوته العذب القوي. وبصراحة، لم يكن عامل التليفونات، موشي، الحلبيّ المتأسرِل، بحاجة لإبهارنا وشراء إعجابنا من خلال معلومة مشكوك في صحتها ("شاب إن تغرّب")، زد على أننا كنا مبهورين معجبين منتشين لمجرّد وجود موشي وطاقمه الفنّي في حيّنا الفقير للتليفونات الهاتفة.
كان ذلك قبل ربع قرن ونيّف، في زمن كان الناس فيه متعطشين للارتباط بأي شبكة متاحة؛ شبكة التليفونات، شبكة الكهرباء، شبكة المياه، شبكة الصرف الصحي (المجاري)، وشبكة الصرف غير الصحي (أجهزة "الكسبومات")... ولوضعكم في الصورة أكثر (بالمناسبة، الصورة أسود وأبيض) أذكر أن طلة المخلِّص موشي علينا جاءت على بعد سنوات من تقديم الطلب، وربما بعد الاستعانة ببعض الواسطات الواصلة والموصِلة، ليخرج بيتنا من التبعية المطلقة لتليفون جارنا "أبو أكرم" الذي كان تليفونًا خصوصيّ الجوهر عمومي الأداء. من اليوم، لن يضطر أبو أكرم لإرسال أكرم تحت المطر في البرد القارس ليعلم أبي، الممرض في غرف العمليات، "أنهم اتصلوا من المستشفى وطلبوك". نم يا أكرم وارتاح، أخيرًا أصبح عنا تليفون، ورقمه 865360-04 .
في تلك الأيام، وبعد أن انتشرت التليفونات مثل النار في أحراج الكرمل، فرح الناس بوصول التكنولوجيا إلى حيواتهم ولم يأبهوا بأنها أفقدتهم نعمة أن تكون إنسانًا منسيًا يصعب الوصول إليه ("ألو مرحبا، بتحكي سمر من البنك، البابا موجود؟!"). بعدها بسنوات اجتاحنا تسونامي التليفونات الخلوية التي حرقت بأشعّتها المزيد من خصوصيتنا وحريتنا ("وينك؟ مع مين قاعد؟ ليس بتردّش؟")، فأدركنا أننا تورّطنا، لكن إدراكنا جاء متأخرًا فالفأس قد وقع واستوطن في الرأس وأصبح أوكسجين الكائن العصري اللاهث الذي صرناه، ثم لحقته موجة التليفونات الذكية التي أجهزت على ما تبقى من حرية مفترضة لتحولنا إلى إحداثيات إلكترونية تتحرك داخل منظومة تتابعها أقمار اصطناعية تستطيع أن تحدد مكانك في أية لحظة، وتقصفك بأية معلومة، سارة أو سامة، تريد إيصالها إليك، بالسمع وبالبصر، بالمكالمة أو بالإيميل، بالرسائل المكتوبة خلويا أو في الفيسبوك. بالعربي؛ وراك وراك، سلّم نفسك، أنت محاصر!
لماذا أكتب كل هذه التوطئة الاستسلامية المشحونة (رغم إدراكي أن الاستسلام هو الحل)؟ ليس فقط لأنني تعبت من أكون "زمين".
* * *
(شطحة لغوية: "زمين"، كلمة عبرية تعتبر من مفاتيح عصرنا الاتصالاتي، وإحدى أكثر الكلمات تداولاً في عربيّنا المحكية. خلال عملي في الكتابة التسويقية والترجمة اصطدمت مرارا بهذه الكلمة التي لم أجد لها الكلمة العربية الموازية المطابقة في المعنى والروح، ربما لأننا شعب يرفض، أو غير مهيّأ، لأن يكون "زمين"، متوفّرًا، متيسّرًا، حاضرًا، جاهزًا، على أهبة الاستعداد، فاضي ومتفضي.. يا عمي، نحن شعب يعود امتداده الحضاري إلى الصحراء، حيث لا زمن ولا مواعيد، لسنا "زمينين" بالفطرة.. من هنا؛ وجدت ولست متأكدًا، أن الاصطلاح الأقرب للكلمة المشؤومة هو "على موعد". بكلمات مبسطة، أن تحمل تليفونا خليويا يعني أن تكون "على موعد" مع أي مصيبة 24/7).
* * *
قبل أن أذهب، ولغرض إغلاق الدائرة، أكشف لكم السبب/المشهد الذي قادني إلى هذا النص الشاكي.
المكان: غرفة الأطفال الدافئة الغاصة بالفرح. الزمان: بعد الظهر في يوم شتوي عاصف. الأب، في منتصف الثلاثينات من عمره، بكامل قواه العقلية والبدنية، منبطح على الأرض، ابتسامته تمتد بين أذنيه، يضحك، بل يقهقه. ابنته (3 سنوات) وابنه (سنة) يتنافسان في إظهار حبهما للبابا؛ قفز، قبلات، معط، ركوب على الرقبة، دغدغة؛ ضحك ولعب وحب. رائع، أليس كذلك؟..
ثم رن التليفون.
- "ألو، مرحبا، معك يوآف، مندوب شركة التأمين "بيطووَح يشير". أرى أنك لا تملك تأمينا صحيا لك ولعائلتك. اِعلم أنك تخسر الكثير، ولأنك زبوننا، ستحصل اليوم على تخفيض جدي على التأمين. فقط 25 شيكلا في الشهر وأنت مغطى. (ثم انطلق بقراءة على الطريقة الإعلانية):
لنفرض أنك أصبت في حادث طرق وأصبت بالشلل لا سمح الله، تحصل على مليون شيكل؛
سكتة قلبية لا سمح الله، مليون شيكل؛
سرطان قاتل لا سمح الله، مليون شيكل؛
فشل كلوي، مليون شيكل؛
تكهربت وفحّمت، مليون شيكل؛
دهسك القطار، مليون شيكل؛
وقعت عن السلم وأصبت، فنقلت سيارة الإسعاف، وفي الطريق إلى المستشفى صدم القطار سيارة الإسعاف فقطعك إربًا إربا، مليون شيكل...
نــــــــــــعم، مليوووووون شيكل. ما رأيك؟".
- يوآف، أنا مشغول الآن، اتصل غدًا..
- طبعا طبعا، هل ستكون "زمين"؟
السبت، ٢١ كانون الثاني ٢٠١٢
السبت، ٣١ كانون الأول ٢٠١١
10، 9، 8، 7، 6، 5، 4، 3، 2، 1...
لبست الكلسون الطويل، وفوقه بنطلون الجينز الطويل، وشددت نفسًا أطول وخضت، أنا وشريكتي في السفر الطويل، هذه الليلة التي سأرشّحها في صبيحة السنة القادمة للمنافسة على لقب "أطول ليلة في حياتي". باريس، هذا السحر المدعو مدينة، وعدتني بنبيذ وبأنخاب جديدة وبأقواس قزح. البرد اللئيم تحطّم عند لباسي الطويل الذي سرق منه بعض درجاته، مشكورًا، ليمنحني، أنا اللا-أوروبيّ، القدرة على مغادرة الغرفة المغلقة الدافئة إلى الخارج، إلى العيد.
بعد أن غادرتني طفولتي التي أنعمت عليّ بليالي رأس سنة بطعم الكستناء المشوي، وبعد أن غادرتني سذاجة المراهقة وأصبح رأس السنة عادة سنوية فيها الكثير من التكرار الممل الذي ينتهي بك مشاهدًا تلفزيونيا متحسرًا حاسدًا مدن العالم على استقبال العام بهذا الشكل الخاص، ها أنا الليلة جزء من نشرة أخبار الساعة 1:00 في تلفزيونكم، قلت لنفسي، وانطلقت نحو البرج الذي ينتظرني منذ سنوات.
وصلنا إلى ساحة البرج الغاصة بالناس نصف ساعة قبل الحدث الجلل، وفي يدي قنينة من النبيذ المثير للفرح. كنا في حضرة عشرات الآلاف من الناس الوافدين من كل جهات الأرض للغرض ذاته – قضاء ليلة من العمر. جميعهم، كما رأيت وسمعت وشممت، كانوا سعداء مسرورين؛ النبيذ كان عند وعده، كيف لا ونحن في بلد النبيذ. رن الهاتف النقال جالبًا التهاني والمعايدات من البيت، هناك حيث يجلس المحرومون من هذا البهاء، أمام سفافيد اللحوم التي بردت كما برد الاحتفال قبل ثلاثة أرباع الساعة. "يا ليتنا معكم" كان ملخّص الحديث الآتي من الشرق، و"إلاّ إلاّ، إحنا هون وإنتو لأّ" كان ملخص الردّ الصادر عنا مغلفا بمعسول الكلام. كنا في قمة السعادة، مجازيا وجغرافيًا، ولم نبلغ بعد الذروة الآتية بعد دقائق.. ميرسي لألله بوكو بوكو.
هي خمس دقائق، قنينة النبيذ نزفت قطراتها الأخيرة للتو، ولا نبيذ أحمر فرنسي يرافقنا عند نقطة الصفر. غفلة تكتيكية شنيعة نشلتنا منها صبيتّان يوغسلافيتان وقفتا على مقربة منا ولاحظتا ضائقتنا فقدمتا لنا نخب صداقة ستعيش لعشرة دقائق عند مفترق عامين. كان نبيذ وكانت أنخاب جديدة، وسيكون قوس القزح!
بدأ العد التنازلي. 60 ثانية؛ نحن هنا ومعنوايتنا أعلى من برج إيفل. 50 ثانية؛ صوت طوشة فرنسية مفعمة بالكحول الفرنسي والسباب الفرنسي تسمع من بعيد، وسرعان ما تذوب هامدة في الجلبة. 40 ثانية؛ العيون شاخصة بزاوية 45 باتجاه البرج. 20 ثانية؛ أشعل سيجارة احتفالية مهيئًا نفسي لأعظم عرض مفرقعات نارية شهده التاريخ، يا لتعاسة باقي سكان الكرة الأرضية الذين لا يعيشون ليلتي الاستثنائية في مدينة الأنوار. 10، 9، 8، 7، 6، سانك (فتنا في الجو)، كواتغ، توا، تو، آن، زيغو، و... عيّدنا.
منذ ذلك الحين، وأنا أقول لكل من قابلني، أن من لم "يعيِّد" ليلة رأس السنة في باريس، لم يعيّد في حياته. لم أخبر أحد بأن الحدث الكبير لم يكن إلا إضاءة البرج لدقيقة أو أكثر، لم أخبر أحد عن نظرة "هدا هو" التي تبادلناها أنا وشريكتي في السفر والخيبة، لم أخبر أحد أن بلدية باريس قررت في تلك السنة أن ترأف بالبيئة ومنعت الألعاب النارية، لم أقل لأحد إن "الميترو" تعطل في تلك الليلة، وأين تاكسيات باريس؟! باختصار، لم أقل شيئًا عندما سألوني عن باريس في الليلة الكبيرة، فكنت أكتفي بتسليم كلمة "باريس" لخيالهم الواسع.
ليلة رأس السنة التالية قضيته في حيفا. في الساعة 12:00 قُطع التيار الكهربائي عن حي عباس. ساق الله أيام باريس!
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)






